إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه
شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
51279 مشاهدة
نعمة الهداية إلى دين الإسلام

الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وأنتم -أصلحكم الله- قد من الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله، وعافاكم الله مما ابتلى به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب. والإسلام أعظم النعم وأجلها؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينا سواه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وعافاكم الله بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة؛ مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية؛ بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته وقضائه وقدره، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة.
وهذا من أكبر نعم الله تعالى على من أنعم عليه بذلك؛ فإن هذا من تمام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا كثر فيكم من أهل الصلاح والدين، وأهل القتال المجاهدين ما لا يوجد مثله في طوائف المبتدعين. وما زال في عساكر المسلمين المنصورة، وجنود الله المؤيدة منكم من يؤيد الله به الدين ويعز به المؤمنين. وفي أهل الزهادة والعبادة منكم من له الأحوال الزكية والطريقة المرضية، وله المكاشفات والتصرفات، وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين.
فإن قدماء المشايخ الذين كانوا فيكم مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري وبعده الشيخ العارف القدوة عدي بن مسافر الأموي ومن سلك سبيلهما؛ فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة، وما عظم الله به أقدارهم ورفع به منارهم.
والشيخ عدي قدس الله روحه كان من أفاضل عباد الله الصالحين، وأكابر المشايخ المتبعين. وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية ما يعرفه أهل المعرفة بذلك. وله في الأمة صيت مشهور، ولسان صدق مذكور. وعقيدته المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم؛ كالشيخ الإمام الصالح أبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري الشيرازي ثم الدمشقي وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما.
وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة؛ بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة، والدعاء إليها والحرص على نشرها، ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم.
وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد، مع أنه لا بد وأن يوجد في كلامهم، وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة، والدلائل الضعيفة كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة.
وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة والفقه فيهما، ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها.
مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء، وكثرة الآراء، وتغلب الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق؛ فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .
فإذا من الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال. وقد قال سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقد قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ .


ذكر في أول الرسالة أنه أرسلها إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر الأموي وكان هذا الشيخ ممن له أتباع على معتقده. وهو قريب من معتقد أهل السنة؛ إلا أنه دخل في شيء من التصوف، ولكنه تصوف معتدل.
ولم يصل إلى ما وصلت إليه الصوفية عندما خرجوا عن الاعتدال. فأتباعه يحسنون الظن به، ولكنهم قد ينخدعون ببعض المتصوفة الغلاة الذين وقعوا في شيء من الخروج عن الاعتدال، واعتقدوا في كثير من رؤساء الصوفية ما لا يجوز اعتقاده فيه.
معلوم أن الصوفية يعتقدون في أوليائهم أنهم أفضل من الرسل؛ أن الولي أفضل من الرسول ومن الأنبياء، ويدعون أن الولي مستغنٍ عن الشريعة، وهذه العقيدة قد يكون موجود في بعض عقيدة بعض أتباع هذا الشيخ، ولكن الأقرب أنهم معتدلون، ثم لعله قصد بهذه الرسالة تذكيرهم بالعقيدة التي هي عقيدة السلف؛ حتى يتمسكوا بها، ويأخذوا من طريقة الشيخ عدي ما هو موافق للعقيدة السلفية.
فأولا سمعنا أنه ذكرهم بالإسلام التي هي منة الله تعالى على عباده؛ وما أعظمها من منة على المسلمين!! هدايتهم لهذا الإسلام بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ومنَّ الله تعالى على الصحابة: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا .
فهكذا ذكَّر الله عباده أنه منَّ عليهم وألف بين قلوبهم وأصبحوا إخوانا دون أن تجمعهم قرابة، أو تجمعهم صداقة أو تجمعهم أمور دنيوية؛ وإنما التي جمعتهم الأخوة الدينية؛ التي صاروا بها إخوانا متحابين في ذات الله. نعمة الإسلام هي أكبر نعمة . يعني النعم الدينية الهداية إلى الإسلام.
الله تعالى هو الذي يهدي. النعمة هي الهداية منه، وقد جعل لها أسبابا، فنحن نشاهد أن هناك أولاد الرجل واحد يربيهم تربية سواء ويدرسهم في مدارس إسلامية يعظهم ويحضر بهم الحلقات ويحضر بهم الخطب. ومع ذلك يتفاوتون؛ فهذا يصير متدينا في غاية الصلاح، وهذا يكون متوسطا، وهذا يكون .. أو يكون متطرفا أو متساهلا، وهذا يكون منحرفا. إذن فهذا دليل على أن الله تعالى هو الذي أقبل بقلب هذا وهداه وجعله مستقيما، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
والحاصل أن الإسلام هو دين الله الذي لا يقبل الله دينا غيره، والذي امتن الله به على عباده المؤمنين؛ في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .
نزلت هذه الآية في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في ظهر يوم عرفة في حجة الوداع؛ ذكرهم بأنه أكمل لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم هذا الإسلام دينا.
وفي آيات أخرى كالتي ساقها المؤلف: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ لما نزلت هذه الآية قالوا: بل أنتم مسلمون؛ فأنزل الله تعالى قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فقالوا: لا نحج. فقال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ؛ فدل على أن الإسلام لا بد أن يكون مشتملا على هذه التعاليم.
والحاصل أن من أكبر نعم الله نعمة الإسلام. هذه نعمة عامة للذين دخلوا في الإسلام. ولكن ليس كل من دخل في الإسلام تتم عليه النعمة؛ بل ما أكثر الذين ينتسبون إلى الإسلام ولا يحققونه! ما أكثر المسلمين الذين ليس معهم من الإسلام إلا اسمه!! مجرد تسم، وهو لا ينفع ولا يفيد صاحبه!! بل لا بد لمن انتسب إلى الإسلام أن يحقق الإسلام قولا وفعلا واعتقادا.
كثيرا ما ترى مثلا ظاهره أنه كافر؛ لا فرق بينه وبين الكفار في مظهره، وفي ملبسه، وفي شعره؛ شعور وجهه، وفي كلامه ومع ذلك .. المسلم، وتجد في هويته الديانة مسلم.
أين الإسلام وأنت لا تعرف شيئا من عنوانه؟!!. الإسلام قول وعمل واعتقاد. إذن لا بد من أمر ثانٍ، وهو تحقيق العقيدة؛ التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي هي عقيدة الفرقة الناجية؛ الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قال: هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي .
هذا هو التفسير الصحيح لهذه الطائفة. الطائفة والفرقة الناجية الذين نجوا من بين هذه الطوائف الكثيرة؛ هم أهل السنة الذين تمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واجتنبوا البدع الأخرى.